29 مارس، 2024 8:09 ص
Search
Close this search box.

ديستوفسكي .. الحب منحه الهدوء ودفء العائلة !

Facebook
Twitter
LinkedIn

خاص : كتبت – سماح عادل :

“فيودور ديستوفسكي” كاتب روسي شهير، عاش في القرن التاسع عشر، وكتب روايات خلدها التاريخ.. فقد ولد في موسكو1821، وتوفى عام 1881، من المثير التعرف على هذا الكاتب الكبير من خلال عيون زوجته الثانية “آنا غريغوريفنا”, التي تزوجته وهو يبلغ من العمر 45 عاماً، في حين أنها كانت تبلغ عشرون عاماً في ذلك الوقت، ولقد وقعت في غرامه وقبلت أن تعيش معه رغم أنه وقت تعرفها عليه كان يعاني من أزمات مالية، ومن مرض خطير، ومن تسلط أقاربه وجشعهم.

في كتاب (مذكرات آنا غريغوريفنا)، ترجمة “خيري الضامن”، إصدار دار المدى، نتعرف على ما قالته زوجة “دستويفسكي” عنه، حيث كتبت عن حياتها معه بعد أكثر من ثلاثين عاماً على وفاته، تقول “آنا” في مقدمة الكتاب أنها لم تفكر يوماً في كتابة مذكراتها، وأنها كانت مشغولة طوال عمرها بإصدار مؤلفات زوجها الراحل، لكن مع تدهور صحتها في 1910، فقد عاشت بعيداً عن العاصمة الروسية “بطرسبورغ” في ذلك الوقت، بعد أن عهدت لآخرين بمتابعة طبع مؤلفات زوجها، وأن الوحدة هي التي جعلتها تفكر في كتابة مذكراتها، وقد أعادت قراءة يوميات زوجها ويومياتها حيث وجدت فيها تفاصيل هامة تستحق أن يطلع عليها الناس، ولقد أمضت خمس سنوات ما بين 1911: 1916 في إعداد هذه المذكرات.

لقاء آنا ودستويفسكي..

التقت “آنا” بـ”دستويفسكي” في 1866, حين كان يبحث عن شخص يملي عليه روايته الجديدة (المقامر) تقول “رشحني أستاذي لهذه المهمة، خفق قلبي فرحاً، كنت شأن جميع فتيات الستينيات أنشد الاستقلال وأبحث عن عمل يجعلني اعتمد على نفسي، خاصة وأنها فرصة للتعرف على كاتب معجبة به للغاية، وكنت أبكي عندما أقرا روايته (مذكرات من بيت الأموات)، تصورته شيخاً بعمر والدي، عبوساً كئيباً كما يتصوره الكثيرون وجئت إلى الموعد المحدد”.

وعن انطباعها الأول عنه, تقول: “كان يقيم في شقة متواضعة بعمارة ضخمة، عندما رأيته لأول مرة خيل إلي أنه عجوز بالفعل، ولكن ما أن تحدث معي حتى تضاءلت سنه، وبدا لي في الخامسة والثلاثين، كان متوسط البنية معتدل القامة، شعره كستنائي فاتح أقرب إلى الأشقر، مدهون ومصفوف بأناقة، وجهه شاحب كوجوه المرضى، يرتدي سترة من الجوخ الأزرق تكاد تكون بالية، إلا أن قميصه ناصع البياض بياقة منشاة وردنين بارزين، ولكن ما أدهشني فيه هو عيناه، لاختلافهما الواضح إحداهما بنية وفي الأخرى بؤبؤ متسع يحتل فضاء العين ويأتي على معظم القزحية، مما يجعل نظراته لغزاً من الألغاز، في نوبة مبكرة من الصرع سقط “دستويفسكي” وأدمى عينه اليمني فوصف له الطبيب علاجاً بالأتروبين أدى الإفراط في استخدامه إلى توسع البؤبؤ إلى هذا الحد”.

وحدة بائسة..

حكى لها “دستويفسكي” عن واقعة الحكم بالإعدام الذي وقع عليه، حيث اقتيد بالفعل إلى تنفيذ الحكم هو ومن معه بسبب تهمة التآمر على النظام، ثم وفي اللحظة الأخيرة بعد توقع إطلاق الرصاص عليه عفا القيصر عنه وعن زملائه، في موقف مدبر وحكم عليه بالسجن أربع سنوات، استغربت “آنا” من صراحته في أول لقاء عمل وأحست أنه يشعر بالوحدة خاصة بعد موت زوجته “ماريا” وأخيه “ميخائيل”، كما أنه يعاني من الدائنين والخصوم،  لكنها أحست بالإرهاق من أول يوم عمل لذا تأخرت عليه في اليوم التالي، وقد سبب له ذلك قلقاً لأنه كان ملتزم بتسليم رواية “المقامر” في غضون شهر تسديداً لديون مجلة (الوقت)، التي كان يصدرها شقيقة “ميخائيل” وتعهد هو بتسديدها بعد وفاته، وقد كان الدائنون يهددونه بمصادرة ممتلكاته وزجه في السجن، لذا فقد باع “دستويفسكي” لأحد الناشرين حقوق طبع مؤلفاته في ثلاثة مجلدات، بالإضافة إلى تأليف رواية جديدة، وقد كان الناشر لئيماً تحايل على “دستويفسكي” وحدد له مدة قصيرة لكتابة الرواية وإلا ستعود إليه، حسب العقد الموقع بينهما، حقوق نشر مؤلفات “دستويفسكي” لأجل غير مسمى، وكان يتوقع أن يعجز الكاتب المريض عن كتابة الرواية في هذا الوقت القصير.

تقول “آنا”: “صرت أتردد عليه يومياً في الثانية عشرة فيملي عليً فصول (المقامر) حتى الرابعة، وفيما بين ذلك نتحدث في أمور شتى، وبالتدريج تحسن مزاجه وتعود على الإملاء فهو يمارسه لأول مرة”.

حلول لحياة بائسة..

كان “ديستوفسكي” يائساً من حياته في ذلك الوقت يفكر في مخارج لها، فقد فكر في ثلاثة حلول يحول بها مجرى حياته البائسة، وتناقش فيها مع “آنا” طالباً منها رأيها، إما الذهاب إلى القدس ليقيم مع الطائفة الأرثوذكسية الروسية هناك لآخر العمر، أو الهجرة إلى أوروبا ليغرق في القمار المولع به، أو الزواج مرة ثانية ربما يجد السعادة، ونصحته هي بالزواج, تقول: “وعلق قائلاً:

– وهل تتصورين بأن امرأة ستقبلني زوجاً ؟.. وأية امرأة اختار ؟.. راجحة العقل أم طيبة القلب ؟.

– راجحة العقل طبعاً كي تناسبك.

– كلا أفضل طيبة القلب تشفق علي وتحبني”.

أنجز “ديستوفسكي” روايته في خلال 26 يوماً، وسلمها إلى الشرطة مقابل إيصال حتى يتفادى غدر الناشر الماكر، وبعد انتهاء المهمة التي كانت لـ”آنا” استمرت علاقتها بـ”دستويفسكي”, حيث أبدى رغبة في التعرف على عائلتها ودعته إلى بيتها، كما عرض عليها عملاً جديداً في الجزء الأخير من روايته الشهيرة (الجريمة والعقاب)، وكانت “آنا” مترددة لكنها وافقت بعد أن شعرت بإصراره.

الاعتراف بالحب..

بعد أيام قليلة زارها “دستويفسكي” في بيت عائلتها متحججاً بأنه يريدها أن تأتي إلى مكتبة لتحديد شروط العمل، وحينما ذهبت إلى مكتبه فوجئت بأنه يصارحها بحبه ويعرض عليها الزواج, تقول: “كان منفعلاً ومبتهجاً حتى بدا لي في سن الشباب، سألته عن سبب ابتهاجه فأجاب أنه رأى حلماً، فضحكت، فقال لا تسخري مني، أنا أؤمن بالأحلام، وأحلامي تتحقق دوماً”. وحكى لها أنه رأى جوهرة براقة بين مخطوطاته في الصندوق، وحينما قالت له أن الأحلام تفسر بالمقلوب تأثر بذلك، واختفت بهجته وتحول مزاجه، وانتقل بالحديث عن العمل، وحكى لها عن رواية يخطط لكتابتها، وأنه لم يفكر في خاتمة جيدة، ففي الرواية فتاة وهو غير ملم بنفوس الفتيات، وطلب منها أن تساعده، وحكى لها عن حبكة الرواية، وفهمت “آنا” أنه يحكي عن نفسه، طفولته القاسية، وعلاقته بزوجته الأولى، والأحداث السيئة التي شغلته عن عمله عدة سنوات، ونهاية الرواية من المفروض أن تكون عودة البطل إلى الحياة، من خلال حب ينقذه من الوحدة والشيخوخة المبكرة، ولم يخطر ببال “آنا” وقتها أنها هي المقصودة ببطلة الرواية المزعومة، التي يحكي عنها “دستويفسكي”.

تقول: “باغتني مرتبكا: – ما رأيك ؟.. هل تستطيع فتاة شابة أن تحب فناناً عجوزاً مثقلاً بالديون ؟.. لنفترض أن الفنان هو أنا والبطلة أنت فما رأيك ؟.. فقلت: – لو كان الأمر كذلك فعلاً لأجبتك أحبك، وسأظل على حبي مدى العمر، وبعد ساعة أخذ يخطط لمستقبلنا، ويسألني عن رأيي في التفاصيل، وكنت عاجزة عن الخوض فيها من فرط السعادة، اتفقنا على كتمان سر الخطبة مؤقتاً”.

وعندما سألته “آنا” بعد ذلك عن المقدمة الطويلة والرواية المزعومة التي مهد بها عرضه للزواج بها، صرح لها أنه كان يعتبر الزواج منها تهوراً وجنوناً، خاصة أن فارق السن بينهما ربع قرن، كما أنه مريض وسريع الانفعال ومكبل بالديون، ومع إحساس “دستويفسكي” بالسعادة مع “آنا” أصبحت نوبات مرض الصراع لديه تتباعد، فقد أصيب بهذا المرض وهو في عمر التاسعة، كما تحسنت حالته النفسية كثيراً.

رغم ذلك بعد الزواج حدثت متاعب كثيرة لـ”آنا” من أقارب “دستويفسكي”، خاصة ابنه “بافل” مما أدى بها إلى التفكير في طلب الطلاق، لكنه أخذها وسافر بعيداً عن روسيا، وعاشوا سوياً أربع سنوات في الخارج، ثم عادوا وسكنوا ببيت متواضع وحدهما.

الخلافات الفكرية..

عن الاختلافات الفكرية بينها وبين “دستويفسكي”, تقول “آنا”: “كنا في الأمسيات نتجادل في مواضيع شتى، وفي الجدال تطفو خلافتنا الفكرية حول مسألة النسوية خصوصاً، فقد كنت من حيث السن والميول من جيل الستينيات الذي تميزت نساؤه بالنزعة التحررية والرفض العدمي، وكان دستويفسكي لا يحب النسويات ويشمئز من رجولتهن وخشونتهن، وعدم اكتراثهن بمظاهر الأنوثة، وكان يؤلمني في نقاشات زوجي معي أنه ينكر على نساء جيلي صلابة العود والمثابرة في بلوغ الهدف المنشود، لكن موقفه من المرأة تبدل تماماً في السبعينيات، عندما ظهرت على المسرح نساء مثقفات وذكيات فعلاً ينظرن إلى الحياة بمنظار جاد، وفي تلك الفترة أكد في مجلته (يوميات كاتب) أنه يعلق آمالاً عريضة على المرأة الروسية التي أخذت تبدي مزيد من المواظبة والجدية، والصدق والعفة، والتضحية والبحث عن الحقيقة على حد تعبيره”.

الكتابة..

عن كتابته, تقول “آنا”: “في خريف 1867 شرع في تأليف (الأبله) ولم يكن راضياً عن الفصول الأولى من الرواية، كعادته من كل ما يكتبه، كان يعجب أشد الإعجاب بفكرة كل رواية، لكنه ما يفرغ منها حتى يشعر بالضيق وعدم الرضا، كما أتعبت رواية (الشياطين) دستويفسكي كثيراً طوال ثلاث سنوات، حتى رأى بعد الفراغ منها أن يؤجل البدء برواية جديدة حيناً من الوقت، أراد أن يصدر مجلة شهرية فريدة من حيث الشكل والمضمون بعنوان (يوميات كاتب)، يعد مادتها لوحده من الألف إلى الياء، لكن الصعوبات المالية جعلته يؤجل هذا المشروع أيضاً، كان يعمل كالعادة حتى الثالثة أو الرابعة بعد منتصف الليل، ويملي عليً ساعة أو ساعتين في النهار كنت بالنسبة له محرراً أو مكشافاً يعكس مدى نجاحه في التأليف، فأنا قارئته الأولى وهو يعتز برأيي، ويؤكد على أنه تيقن مراراً من صحة انطباعاتي بعد إطلاعه على آراء القراء والنقاد”.

مع أطفاله..

كان “دستويفسكي” أباً حنوناً، تكفل برعاية ابنه “بافل”، وكان ينفق على أبناء أخيه المتوفى “ميخائيل” الخمسة، رغم أن حياته دوماً كانت مليئة بالأزمات المالية، كما كان يحنو على أبناء مديرة منزله التي كانت أرملة تعول أبنائها الثلاث، وحين أنجبت له “آنا” أطفال كان سعيداً بهم تقول: “كان دستويفسكي يداعب طفليه ويرقص معهما، ومعي أحياناً وهو في أطيب المزاج، ولذا تدهشني ادعاءات البعض من أنه سوداوي منقبض النفس دوماً، وقيبل المنام يبارك الطفلين ويرتل معهما “يا أبانا” وسائر الابتهالات الدينية كل ليلة، ولم أر في حياتي رجلاً أكثر منه في مهارة ولوج عالم الأطفال وتشويقهم بحكاياته المثيرة حتى ليغدو واحداً منهم”.

رأيه في تولستوي..

تقول “آنا”: “قال عن رواية (آنا كارنينا) أنها من عيون الأدب المهمة، وهي أفضل رواية تزكية لنا أمام أوروبا، بل هي تمكننا من نبذ أوروبا، وقال عن “ليو تولستوي” أنه فنان بلغ ذروة الإبداع، وأن أمثاله هم معلمو المجتمع، معلمونا ونحن مجرد تلاميذ لهم”.

مراقبة السلطة له..

في بداية حياته كان “دستويفسكي” حالماً، واتهم بالتآمر على النظام، وكاد أن ينفذ فيه حكم الإعدام، لكنه قضى سنوات في السجن، ثم نفي سنوات أخرى، ولقد ظل ملاحقاً من الرقابة الأمنية أكثر من ربع قرن، رغم أنه لم يكن له نشاطاً سياسياً وكان مؤمناً بقومية روسيا، تقول زوجته: “عاش “دستويفسكي” منذ عام 1859 بهوية إقامة وقتية في “بطرسبورغ” شأن عشرين ألف مشرد من سكانها، ممن لا يحملون هوية دائمة، ولم يكن الرجل يمتلك منزلاً خاصاً به، وليس له من الأموال غير المنقولة سوى قطعة أرض مستنقعة في محافظة “رايازان” خلفتها خالته لعدد كبير من الورثة، ولم يستلم حصته من تلك التركة إلا قبيل وفاته بعامين، وبعد أن رحل عنا تمكنت من شراء المنزل الريفي الذي كنا أمضينا فيه عدة سنين على سبيل الإيجار”.

موته..

عام 1881 كان “دستويفسكي” قد وصل إلى شهرة كبيرة بين مواطنيه، وكان يعاني من مرضاً رئوياً، وقد تدهورت حالته الصحية كثيراً, تقول “آنا”: “استيقظ “دستويفسكي” كعادته ظهراً وأخبرني أن نزيفاً حدث له في الليل، توقف النزيف في نفس اليوم، ومع ذلك لم يغمض جفنه خلال الليل، طلب مني أن أحضر الإنجيل وأشعل شمعة وقال “سأموت اليوم”، فتح الإنجيل على صفحات اختارها عشوائياً وأعطاني إياه فقرأت “وإذا السموات قد انفتحت له فرأى روح الله نازلاً مثل حمامة وأتياً عليه”، فقال “ألم أقل لكي يا حبيبتي أني سأموت اليوم”، وفي التاسعة من صباح اليوم التالي غفا بهدوء ويدي في يده، إلا أن النزيف أيقظه في الحادية عشرة، والمنزل يغص بالحاضرين في انتظار الطبيب الذي حضر في حوالي السابعة مساء، آنذاك انتفض “دستويفسكي” فجأة دون سبب واضح ورفع رأسه وأسلم الروح، وفي الأول من شباط/فبراير 1881 شيع جثمان دستويفسكي في موكب عفوي كبير”.

أخبار ذات صلة

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب