4 مارس، 2024 5:49 ص
Search
Close this search box.

ثمود الذين جابوا الصخر بالواد – دراسة تاريخية

Facebook
Twitter
LinkedIn

سامي مهدي *
ربما كان أشبه بهاجس شعري هذا الذي دفعني إلى البحث عن ثمود في المراجع والمصادر والكتابة عنها . فكلما مر علي ذكرها في كتاب أو صحيفة أو حديث تحرك هذا الهاجس ورحت أتساءل عن حقيقة ثمود ، وعن وجودها في التاريخ ، واختفائها من مسرحه . فمن ثمود إذن ، وما تاريخها ، وكيف اختفت ؟
ورد ذكر ثمود باسمها الصريح في تسع عشرة سورة من سور القرآن الكريم هي : التوبة ، وإبراهيم ، وهود ، والأعراف ، والحج ، والفرقان ، والشعراء ، والنمل ، والعنكبوت ، وسورة ( ص ) ، وغافر ، وفصلت ، وسورة ( ق ) ، والذاريات ، والنجم ، والقمر ، والحاقة ، والفجر ، والشمس . ونفهم من الآيات التي وردت في هذه السور أن ثمودَ كانت تعبد الأصنام ، وعصت نبيها صالحاً ، وتمسكت بمعبوداتها ، فأهلك الله العصاة بالصيحة . ويظهر من الكتابات الثمودية أن كلاً من : ود ، وعثتر السماء ، ورضا ، ونهى وغيرها ، كانت من معبوداتها . وعادة ما يرد ذكر ثمود في القرآن مثلاً لما ينتظر المشركين الذين يعرضون عن الأنبياء من عقاب شديد . وغالباً ما يقترن ذكرها بذكر عاد التي أهلكتها ريح صرصر للسبب نفسه . ولكن السؤال عن ثمود ما زال قائماً ، فمن ثمود ؟
ثمود ، عند الأخباريين والنسابين ، ممن عرفوا بالعرب البائدة . وبناء على روايات هؤلاء ، واقتران ذكرها في القرآن بذكر عاد ، رأى بعض الباحثين المعاصرين أنها وعاد من أرومة عائلية ودينية وثقافية واحدة ( فاضل الربيعي / إرم ذات العماد / ص 286 ) . وهناك من ظن أنها شرذمة من الهكسوس الذين طردهم أحمس الأول من مصر ( محمد مبروك نافع / عصور ما قبل الإسلام / ص 10 ) . وادعى بعضهم أنها من قبائل معين ، وزعم آخرون أن قبيلة لحيان هي ثمود نفسها أو قبيلة من قبائلها ، وقيل الشيء نفسه عن القيداريين والأنباط ، ولكنني لم أجد دليلاً يعتد به في تأييد أي من هذه الآراء والظنون . أما المؤرخون العرب القدامى ، كالمسعودي والطبري وابن الأثير ، فقد وضعوا لثمود أنساباً أسطورية ، وأرجعوها وعاداً إلى جد واحد هو : إرم بن سام بن نوح . غير أنني سأعرض عن هذا كله وأعوّل على ما جاء في المصادر المدونة الأخرى .
وأول ذكرٍ لثمود في هذه المصادر هو ما ورد عنها في سجلات الملك الآشوري سرجون الثاني ( 721-705 ق. م. ) . فقد جاء فيها أنه شن في عام ( 715 ق. م. ) حملة على بعض القبائل العربية في بادية الشام وشمال غربي الجزيرة العربية وهزمها ، وكان من بينها ثمود ( Tamudi ) أو ( Thamudi ) . وهذا يعني أن ثمودَ كانت موجودة في هذه المنطقة قبل هذا التاريخ بكثير أو قليل . ومن المحتمل أن يكون سرجون هذا قد أجلى بعض الثموديين وأسكنهم في السامرة في فلسطين مع من أجلى من هذه القبائل وأسكنهم هناك ، بناء على الخبر الذي جاء في سجلاته .
غير أن اللافت للنظر أن التوراة لم تذكر الثموديين مع من ذكرت من أقوام وقبائل ، برغم أن بعضهم عاش في الشمال الغربي من الجزيرة العربية وأطراف الشام قروناً طويلة تزيد على ألف عام . وكذلك لم يذكرهم الملك نبونئيد ( آخر ملوك الدولة الكلدية في بابل ) الذي غزا هذه المنطقة ( في حدود عام 551 ق. م. ) مع أنه فصل أخبار غزوته في مسلته التي عثر عليها في حران عام 1956 ، وذكر فيها أنه احتل واحة تيماء وقتل زعيمها مالك ( ملكو ) ثم احتل دومة الجندل ، وتوغل بعدها في الجنوب فاحتل العلا وفدك والبدع وخيبر ويثرب ، وبنى له قصراً في تيماء ( أقام فيه نحو عشر سنوات ) .
وكذلك شأن المؤلفين الكلاسيكيين المبكرين من اليونان والرومان الذين كتبوا عن العرب وذكروهم في مؤلفاتهم مثل : هيرودوتس وثيوفراستوس وإيراتوستينس ، فهم لم يذكروهم مع من ذكروا فيها . وكان أول من ذكرهم أجاثريدس ، وجاء ذكرهم عنده باسم Thamudenoi . وقال إنهم يسكنون عند شاطيء صخري يبلغ طوله نحو ( 100 ) ستاديون ( الستاديون الواحد طوله 400 ذراع ) ويقع هذا الشاطئ عند ما سماه الخليج الطويل للبحر الأحمر ، والواضح أنه يقصد ما يعرف اليوم باسم : خليج العقبة . وتكرر ما ذكره أجاثريدس عند ديودروس الصقلي في القرن الأول الميلادي مع اختلاف طفيف . ثم ذكرهم أورانوس وقال إنهم يقطنون على حدود ما يعرف في الأدبيات الكلاسيكية بالمقاطعة العربية . وإلى مثل هذا ذهب بطليموس في القرن الثاني للميلاد . ( د. منذر البكر / دراسات في تاريخ العرب قبل الإسلام / ص 125 ) وغيره .
أما المؤلفات التاريخية العربية القديمة فقد اختلفت عن المؤلفات اليونانية والرومانية في تحديد المنطقة التي كانت ثمود تقطنها ، وأجمعت على أنها مدينة ( حجر ) التي تعرف اليوم باسم ( مدائن صالح ) . فقد ذكر المسعودي : أن منازل ثمود كانت بين الشام والحجاز إلى ساحل البحر الحبشي ( أي البحر الأحمر ) وديارهم بفج الناقة ، وبيوتهم إلى وقتنا هذا منحوتة في الجبال ، ورسومهم باقية ، وآثارهم بادية ، عن طريق الحاج لمن ورد من الشام بالقرب من وادي القرى ، وبيوتهم منحوتة في الصخر لها أبواب صغار ، ومساكنهم على قدر مساكن أهل عصرنا . وهذا يدل على أن أجسامهم كأجسامنا ، دون ما تخبر به القصّاص عن بُعد أجسامهم ( مروج الذهب : 2/156 ) . وقال الطبري : إنهم يسكنون الحجر إلى وادي القرى بين الحجاز والشام . ( تاريخ الرسل : 1/227 ) . وذكر الهمداني : أن حجر موضع ثمود وفيها آثار عظيمة . ( صفة جزيرة العرب / ص 171 ) . وإلى مثل هذا ذهب ابن الأثير في كتابه : الكامل في التاريخ . أما الإصطخري فوصف ما ظنه منازل ثمود في مدينة حجر وصفاً دقيقاً ، والظاهر من وصفه أنه شاهدها عياناً وتجول بنفسه في أنحائها . ( مسالك الممالك / ص 19-20 ) .
ولكن ظهر مؤخراً ، بأدلة ملموسة قاطعة ، أن ما ذهبت إليه المؤلفات التاريخية العربية القديمة حول منازل ثمود لم يكن سوى وهم من الأوهام . وقد ظل هذا الوهم سائداً حتى سنوات قليلة بين المؤرخين المعاصرين ، وهو ما يزال سائداً حتى اليوم في كثير من الأوساط ، وما زالت هذه الأوساط تجادل فيه على صفحات بعض الصحف وبعض مواقع الانترنيت كما لاحظت . فالتنقيبات الأثرية التي جرت في حجر ( مدائن صالح ) خلال السنوات الأخيرة كشفت أن المغاور الجبلية المنحوتة فيها ليست سوى مقابر أسرية نبطية ، فليس في داخلها سوى القبور . والكتابات المنقوشة على جدرانها هي كتابات نبطية وليست ثمودية . وصالح الذي اقترن اسم المدينة باسمه ليس صالحاً النبي ، بل هو صالح آخر ، من بني العباس بن عبد المطلب جد الرسول ( ص ) . وأكد هذا كله منذ سنوات قليلة الدكتور فرج الله أحمد يوسف الذي نقب في حجر في حديث لصحيفة الشرق الأوسط ( 11 يناير 2004 ) وكشف أن تاريخ أقدم واجهة من واجهات هذه المقابر يعود إلى عام 100 قبل الميلاد . وتحدث عن الحفريات التي جرت هناك وقال ( إننا لم نعثر على نص واحد ، أو كلمة واحدة تقصد ثمود وتثبت على الأقل أن الثموديين سكنوا هذه المنطقة ) . وأيده في عدد الصحيفة نفسه الدكتور خالد أسكوبي فقال : إننا لم نعثر في الحفريات الثلاث التي أجريناها في منطقة الحجر على أي دليل أثري يرجع لثمود ، وكل الذي عثرنا عليه هو نبطي بشكل جازم . وأكد ما ذهب إليه هذا الباحثان المختصان مطلق سليمان المطلق المعاون والباحث في وحدة الآثار في منطقة العلا في المملكة العربية السعودية . وقال المطلق : إن عدد الواجهات المنحوتة في حجر يبلغ 132 واجهة ، وهي واجهات مقابر نبطية أسرية ، وأضاف أن التحليل الكيمياوي الذي أجري على بقايا العظام التي وجدت في هذه المقابر أثبت أنها تعود إلى نحو عام 100 قبل الميلاد . وكانت الصحيفة نفسها قد أشارت إلى بحث كان قد نشره البروفسور جون هيلي ( من جامعة مانشستر ) في حولية الآثار السعودية ( أطلال ) وذهب فيه المذهب نفسه .
هذه إذن شهادات أربعة شهود من الباحثين الميدانيين المختصين . ومما يعزز هذه الشهادات أن اسم ثمود لم يذكر في سورة الحجر في القرآن الكريم بخلاف كل الآيات التي ذكرت فيها باسمها الصريح ، بل ذكر اسم أصحاب الحجر ( الآية 80 ) . فلم لا يكون المقصود بهذه الآية قوم غير ثمود إذن ؟ على أن الوهم الذي وقع فيه المؤرخون العرب القدامى ما كان ينبغي للمؤرخين المعاصرين أن يقعوا فيه لو أنهم تمكنوا من قراءة النصوص المنقوشة على الواجهات الصخرية في حجر ، وانتبهوا جيداً إلى الموقع الذي حدده كل من أجاثريدس وديودروس وأورانوس وبطليموس لمنازل ثمود . فهذه المنازل كانت تمتد على طول ساحل خليج العقبة وإلى الغرب من واحة تبوك حسب توصيفهم ، فهي بعيدة إذن نسبياً عن العلا وحجر وتيماء ودومة الجندل . وهذا النمط من المغاور المنحوتة في حجر غير موجود في أي موقع من المواقع التي استوطنها الثموديون في أنحاء الجزيرة العربية كلها ، بينما هو موجود في بطرا ( البتراء ) عاصمة مملكة الأنباط ، وفي مدين قرب البدع ، وحدهما ، وهي الأخرى مدافن وليست بيوتاً سكنية . ذلك أنها غرف صغيرة لا يستطيع أحد أن يتخيل أنها صالحة للسكنى أو أن أحداً سكن فيها ، ولم يعثر فيها على ما يدل أنها كانت مسكونة في يوم من الأيام ، وإن حمل بعضها اليوم اسم القصر ، كقصر الصانع وقصر الفريد وقصر البنت . والثابت أصلاً أن حجر والعلا كانتا مستعمرتين معينيتين منذ أواخر الألف الثاني قبل الميلاد في الأقل ، وكان أغلب سكانهما من المعينيين ، ثم أصبحتا مستعمرتين سبئيتين بعد سقوط الدولة المعينية في أواخر القرن السابع قبل الميلاد ، ولم تكن تيماء ببعيدة عن نفوذ المعينيين والسبئيين في أيام صعودهم . وظلت المدن الثلاث ( الواحات ) كذلك حتى خضعت للمملكة التي أسسها اللحيانيون في المنطقة ، وحتى قيام مملكة الأنباط بالاستيلاء عليها والقضاء على المملكة اللحيانية .
ويبدو أن لثمود تاريخاً أقدم بكثير من ذلك التاريخ الذي ورد في سجلات الملك الآشوري سرجون الثاني ، وأن منازلها في الشمال الغربي من الجزيرة ليست منازلها الأولى . فهناك من يرى أن هذه المنازل كانت في مدينة ثمود ( أو منطقة ثمود ) الواقعة في صحراء حضرموت في اليمن ثم نزحت عنها . وهذا أقرب إلى الحقيقة في رأيي ، وإلا فلماذا سميت المدينة بهذا الاسم إن لم تكن لها صلة بثمود ؟ ويعزز هذا الرأي عثور فريق روسي _ يمني مشترك قام بالتنقيب في المنطقة ووجد آثاراً تعود إلى أزمنة مختلفة منها أدوات ومبان تعود إلى العصور الحجرية ، كما كشف عبد الرحمن السقاف مدير الآثار في حضرموت في حديث صحفي . ويبدو أن ثمودَ قد تشتت بعد نزوحها إلى مجموعات صغيرة ، أو أسر ، ونزحت من منازلها بدفعات متعاقبة ، وانتشرت في أنحاء مختلفة من الجزيرة العربية . فقد وجدت لها رسوم حيوانية ونقوش صخرية في وادي تثليث ، وفي بئر حما ( في منطقة عسير ) وفي جبل العرفاء ( قرب الطائف ) وفي جبل البيضتين ، وجبل حبوقة ، والبجادية ( في محافظة الدوادمي في عالية نجد ) وفي كهف برمة ( قرب مدينة الرياض ) وفي جبل المليحية ( 40 كم شرقي مدينة حائل ) وفي مواقع جبلية عدة قرب مدينة سكاكا ( في الجوف السعودي ) وفي حوض جبة ( في صحراء النفوذ ) . وهذا كله يسمح لنا بأن نستنتج : أن ثمودَ كانت قبيلة كبيرة ثم تشتت عند نزوحها إلى جماعات صغيرة بعد الكارثة التي حلت بها ، وحل بعضها في المواقع التي ذكرناها ، وربما في مواقع أخرى لم تكتشف بعد ، بينما نزح بعضها إلى الشمال الغربي من الجزيرة ونزل في منطقة حسمي وما جاورها موزعين في الجبال والحرار ، واتخذوا لهم معبداً رئيسياً في ( الغوافة ) في أقصى جنوبي هذه المنطقة ، ثم تشتت هؤلاء مرة أخرى ، كما سنرى في ما بعد .
أما تاريخ مدينة ثمود ( أو منطقة ثمود ) في اليمن فليس في الوسع التثبت منه والحديث عنه في الوقت الحاضر لغياب المعلومات ، خاصة أن هذه المدينة لم تضم إلى اليمن إلا بموجب التعديل الأخير لحدوده مع المملكة العربية السعودية . وأما نزوح ثمود من هذه المنطقة فالأرجح عندي أنه بدأ في زمن ما من الألف الثالث قبل الميلاد بعد أن حلت بها الكارثة ، فبعض الرسوم والنقوش الثمودية التي عثر عليها في جبل العرفاء قرب الطائف يعود تاريخه إلى ما قبل الألف الثاني قبل الميلاد ، كما تذكر المصادر الأثرية السعودية الرسمية . فإذا صح هذا أمكننا القول إن ثمودَ هي ثمودان : ثمود الأولى التي كانت تستوطن منطقة ثمود في اليمن قبل تصحرها وحلول الكارثة بها ، وثمود الثانية التي تشتت بعد التصحر وانتشرت في أنحاء الجزيرة العربية المختلفة .
والآن أيمكننا الحديث عن حضارة ثمودية ؟
برغم ما يبدو على ثمود من بداوة ، كانت قبيلة متحضرة نسبياً كما يبدو ، ثم انتكست حضارتها بعد رحيلها من موطنها الأول في اليمن وتشتتها في الآفاق . فقد مارست في مستوطناتها الجديدة الزراعة وتربية المواشي والتجارة والتعدين وبعض المهن البسيطة مثلما مارس بعضها الرعي والصيد ، وهذا دليل كاف على تحضرها النسبي في ما أظن .
ويذكر ابن عبد ربه : أن بني هانيء من ثمود كانت تسكن الطائف ، وهم الذين خطوا مشاربها وأتوا جداولها وأحيوا غرسها ورفعوا عرشها ( العقد الفريد 2/37 ) . وروى صاحب الأغاني أبو الفرج الأصفهاني أخباراً عدة تذكر أن ثقيفاً هي من بقية ثمود ، وموطن ثقيف ، كما نعرف ، هو مدينة الطائف . ومن هذه الأخبار ما يحيل إلى الرسول ( ص ) ، ومنها ما يحيل إلى الإمام علي بن أبي طالب وإلى ابن عباس رضي الله عنهما ، ومنها أيضاً خبر طريف جاء فيه : أن الحجاج بن يوسف الثقفي قال في خطبة له خطبها في الكوفة ( بلغني أنكم تقولون : إن ثقيفاً من بقية ثمود ، ويلكم ! وهل نجا من ثمود إلا خيارهم ، ومن آمن بصالح فبقي معه عليه السلام ! ثم قال : قال الله تعالى ( وثمودَ فما أبقى ) . فبلغ ذلك الحسن البصري ، فتضاحك ثم قال : حكمَ لُكَعُ لنفسه ، إنما قال عز وجل ( فما أبقى ) أي لم يبقهم بل أهلكهم . فرفع ذلك إلى الحجاج فطلبه ، فتوارى عنه حتى هلك الحجاج . ( الأغاني 4 / 302 – 307 ) وواضح أن البصري قد تجاهل عن عمد ما جاء في آيتين حول نجاة قسم من ثمود هما : الآية 18 من سورة ( فصّلت ) والآية 53 من سورة ( النمل ) فالآيتان تشيران إلى نجاة فريق منها .
وبرغم أن روايات كهذه لا يعتد بها المؤرخون المعاصرون فإن تعددها وتنوع مصادر روايتها لا يخلوان من معنى ، حتى لو أن بعضها ، أو كلها ، صنع في عصر الحجاج وروي نكاية به وتعريضاً بنسبه . ثم أن منازل بعض ثمود لم تكن بعيدة عن الطائف ، فقد وجدت لهم نقوش كتابية ورسوم حيوانية كثيرة في جبل العرفاء الذي يقع في شماليها الشرقي ويبعد عنها بمسافة 35 كم ، فمن المحتمل إذن أن يكون بعض الثموديين قد حل في هذه المدينة ، وكان له دور في تنظيم الري والزراعة فيها .
ويذكر الدكتور مراد كامل أن تاريخ النقوش الثمودية التي عثر عليها في شمالي الجزيرة العربية يعود إلى حقبة زمنية تمتد من القرن الخامس قبل الميلاد حتى القرن الرابع الميلادي ( مقاله : لغات النقوش العربية الشمالية وصلتها باللغة العربية / بحوث ومحاضرات مجمع اللغة العربية في القاهرة / مؤتمر 1961 – 1962 / ص 180 ) . ولكن هذا قد يصح على النقوش التي عثر عليها في هذه المنطقة ولا يصح على التي عثر عليها في غيرها . فثمود عرفت الكتابة منذ عهد مبكر في اليمن كما يبدو ، وبعض النقوش الثمودية التي اكتشفت في جبل العرفاء يعود إلى ما قبل الألف الثاني قبل الميلاد ، حسب المصادر الأثرية السعودية الرسمية ، ولم تكتشف نقوش يمنية أقدم منها حتى الآن . وقد كتبت هذه النقوش بخط أبجدي شبيه بالخط المسند الذي كتبت به الأقوام اليمنية القديمة . وبدأ هذا الخط بخربشات ثم تطور وتبلور . ويقول بعض العارفين بلغة ثمود أن أبجديتها هي أبجدية اللغة العربية نفسها ، ولكنها تخلو من حرف الظاء ، وهذا ما لم يكن في وسعي التأكد منه . وقد انتشرت نقوشها في مناطق كثيرة متباعدة من الجزيرة العربية . فعثر على مجموعة منها في منطقة ثمود في اليمن ، كما ذكر في بعض مواقع الإنترنيت ، وعثر على مجموعات أخرى في المناطق التي استوطنتها من الجزيرة ، حتى ليزعم بعضهم أن المعثور عليه من النقوش الثمودية في المملكة العربية السعودية وحدها يبلغ نحو (160 ) ألف نقش ، وقيل أيضاً إنها نحو (10 ) آلاف نقش فقط ، ولكنني لم أجد ما يؤكد هذا الرقم أو ذاك في المصادر السعودية التي يعتد بها ، على أن المعثور عليه من هذه النقوش يعد بالآلاف ، كما ورد في مصادر موثوقة عديدة .
ويذكر الدكتور جواد علي ، وغيره ، أن الآثاريين عثروا على كتابات ثمودية كثيرة في الصحراء السورية ، وعلى مقربة من الحدود السورية الفلسطينية ، وفي الحرة والرحبة شرقي حوران ، وفي الشمال الغربي من تدمر ، وفي سيناء . وبعض هذه النقوش يعود إلى ما قبل ميلاد المسيح ومنها ما يعود إلى ما بعد الميلاد بقرون . ( مفصل تاريخ العرب قبل الإسلام 1/120 و 328 ) .
غير أن النصوص الثمودية لم تدرس بعد دراسة شاملة لنتعرف على طبيعتها وتواريخها وقيمة ما جاء فيها لإجلاء ما يحيط بتاريخهم من غموض . ولكن دراسة جزئية حديثة اقتصرت على النصوص التي وجدت في مواقع : كرمنسية ، وقليب الضبي ، وجبل القلعة ، وقارة المزاد ، والنيصة ، والرفيعة ( قرب مدينة سكاكا في الجوف السعودي ) كشفت أنها أدعية ، وعبارات شوق ، وتذكارات ، وتثبيت ملكيات ، ونصوص طبية ، وأسماء بعض المهن . وبعض هذه النصوص يعود إلى القرنين الثالث والثاني قبل الميلاد ، كما يقول صاحب الدراسة الدكتور سليمان بن عبد الرحمن الذبيب ، وبعضها يعود إلى حقبة متأخرة تبدأ من القرن الأول قبل الميلاد وتمتد إلى القرن الثالث الميلادي . ( صحيفة عكاظ عدد تشرين الأول / أكتوبر 2009 ) .
ويذكر أحد النقاد العرب القدامى ، وهو محمد بن سلام الجمحي المعروف بابن سلام ، أن محمداً بن اسحاق بن يسار ، وهو من علماء السير والمغازي ( كتب لعاد وثمود أشعاراً كثيرة ، وليس بشعر ، إنما كلام مؤلف معقود بقوافٍ ) . وعلق ابن سلام على ذلك مستنكراً فقال : أفلا يرجع ( ابن يسار ) إلى نفسه فيقول من حمل هذا الشعر ، ومن أداه منذ آلاف السنين ؟ ( طبقات فحول الشعراء 1/8 ) . وحجة ابن سلام في قوله أن عاداً وثموداً قد بادتا ، فمن تكفل بنقل شعرهم عنهم ؟ ولكن أليس من المحتمل أن يكون للثموديين شعر بلغتهم هم ( وهي ليست لغة الشعر الجاهلي ) وظل هذا الشعر يروى حتى وصل ابن يسار أو غيره ، ماداموا قد ظلوا موجودين إلى ما قبل ظهور الإسلام بنحو قرن ونصف القرن ؟ أما ابن يسار الذي لِيمَ كثيراً على ما رواه فقد كان يتخلص بطريقة بارعة فيقول : لا علم لي بالشعر ، أُتِينا به فأحمله !
ويلاحظ أن الثموديين كانوا يفضلون الاستيطان في الجبال وعند قواعدها ، وقد يكون السبب هو تجربتهم الأليمة في صحراء حضرموت ، أو تفادي السيول العارمة في المواسم المطيرة ، أو لأن هذه المواقع يسهل الدفاع عنها والالتجاء إليها عند وقوع غارة معادية ، أو لكل هذه الأسباب . ويبدو من طبيعة هذه المستوطنات أنهم كانوا مجموعات بشرية صغيرة لم تستطع أن تنشيء فيها مدناً وتطور حضارة ، وربما كانوا ينزحون منها حين يشح الماء أو تتغير ظروفهم في منازلهم . ولكن حيثما استوطن الثموديون تركوا آثاراً تدل عليهم ولا تدل على غيرهم هي : نقوشهم الكتابية ورسومهم الحيوانية على واجهات صخور الجبال . فقد كان لهم ولع بتسجيل أشواقهم وتذكاراتهم وتثبيت أملاكهم ونقش أدعيتهم . وكان لهم ولع آخر هو رسم حيوانات بيئتهم الطبيعية من ماعز وغزلان وأبقار وجمال ونعام وأسود حيثما وجدت أسود . وقد عثر في بعض مواقعهم ( قرب سكاكا ) على رسوم نباتية وأشكال بشرية ( د. سليمان الذبيب / مصدر سابق ) . ولابد لهذا الولع بالرسم من دلالة في عقائدهم الدينية ، في رأيي . كما عثر على خامات حديد ، ومناجم في بعض المواقع التي استوطنوها كموقعي وادي تثليث ( في عسير ) والبجادية ( في الدوادمي ) وهذا يشي بأنهم كانوا على قدر ما من المعرفة بالتعدين وبعض الصناعات المعدنية ، ربما صناعة السيوف في الأقل . ولوحظ في نصوص سكاكا أن بعض الثموديين كانوا يزاولون بعض المهن البسيطة فظهرت عندهم مفردات تدل عليها مثل : الجصّاص ( من الجص ) والخرّاز ( من الخرز ) . ( د. سليمان الذبيب )
من هذا كله يمكن أن نستنتج أن الثموديين كانوا يتأرجحون بين حياة البداوة وحياة الحضارة ، بحكم البيئة والظروف . ولكن ماذا عن مصيرهم ؟
لقد انتشرت ثمود ، بعد الكارثة التي حلت بها في منازلها الأولى ، في رقعة جد واسعة من الأرض شملت مواقع مختلفة ومتباعدة من الجزيرة العربية وأطرافها الشمالية ، فكان لها وجود في مواقع من عسير في الجنوب الغربي من الجزيرة ، وفي وسطها في نجد ، وفي شماليها في الجوف ، وفي شماليها الغربي في حسمي ، وفي شرقي مدينة حائل ، وفي مواقع مختلفة من بادية الشام ، وفي أطراف من سورية وفلسطين . ولكن لم يرد عن الثموديين خبر يفيد بأنهم أغاروا على أحد أو دخلوا في نزاع مع أحد ، حتى ليبدو عليهم أنهم كانوا قوماً مسالمين ، برغم وجود بعضهم في منطقة يشتد فيها الصراع على الطرق التجارية . فقد كان اهتمامهم بالتجارة ثانوياً وكان اشتغالهم بها محدوداً . واصطدامهم بجيش الملك الآشوري سرجون الثاني يبدو استثناء نادراً لا يد لهم فيه ، فهو لم يتكرر مع الآشوريين ولا مع غيرهم ، ولم يرد بخلاف ذلك أي خبر من الأخبار . ومن المحتمل جداً أنهم كانوا يصانعون القوى المهيمنة ، ويرغبون عن كل شكل من أشكال السلطة والنفوذ فتركوها للمعينيين والسبئيين واللحيانيين والقيداريين والأنباط ، وكان همهم أن يعيشوا حياتهم الطبيعية رعاة وزراعاً وتجاراً ومهنيين ، ولا يدخلوا في أي نزاع ، وربما كانوا يدفعون للقوى المهيمنة أتاوات ليتركوهم وشأنهم .
وقد لاحظت من محاولات التعرف على طبيعة المواقع التي نزلوا فيها أنها كانت مواقع معزولة في الجبال والحِرار ، وكانوا يقيمون مساكنهم من ألواح وكسر صخرية ، ولكنهم لم يكونوا ينحتونها في الجبال ، كما شاع عنهم بين المؤرخين القدامى والأخباريين ، وليس ثمة موقع ثمودي واحد يدل على أنهم فعلوا ذلك . ثم أنني لم أجد أي دليل ملموس يدل على أنهم شيدوا مدناً أو أقاموا فيها في أي مكان نزلوا فيه من الجزيرة العربية . ونحن قد نجد في بعض المدن أفراداً من الثموديين ، أو أسرة ثمودية صغيرة ، ولكننا لا نجد في أية حال مجموعة بشرية ثمودية كاملة استوطنت مدينة من المدن ، ربما عدا الطائف إذا صح ما نقلناه من أخبار . ولذا لا أتفق مع الأستاذ الباحث فاضل الربيعي الذي يعتقد أنهم نزلوا في مدن كحجر وتيماء ودومة الجندل وكانت لهم مملكة أو ممالك في تلك المنطقة ، وأنهم دخلوا في صراعات مستمرة مع الآشوريين ، وكانوا طرفاً في التحالفات القبلية التي صارعها الآشوريون ( إرم ذات العماد / الفصل السابع ) . فهذه كلها افتراضات عائمة لا توجد أدلة ملموسة تؤيدها . بل أن الثموديين لم يستوطنوا هذه المدن أصلاً ، ولم تنشأ في هذه المنطقة سوى مملكة واحدة غير مستقرة هي مملكة لحيان التي غزاها الكلديون وقضى عليها الأنباط ، ومن كان الآشوريون يعدونهم ملوكاً ليسوا سوى زعماء قبائل ، ومن عدوهنَّ ملكات كنَّ في واقع الأمر من نساء هؤلاء الزعماء أو من بناتهم . فعادية ( آديا ) مثلاً كانت زوجة زعيم قبلي يدعى : يثع ، وتوبة أو ثويبة ( تبوءة ) كانت ابنة زعيم دومة الجندل : خزائيل . وهذا ما ينطبق أيضاً على زبيبة ( زبيبي ) وشمس ( سمسي ) في أرجح الاحتمالات ، وربما كان بعضهن كاهنات متنفذات ، ذلك لأن تقاليد القبائل العربية وعاداتها ونزاعاتها ، تسمح بوجود كاهنات ، ولا تسمح بزعامة النساء .
والواضح من كتابات أجاثريدس وأورانوس وديودروس وبطليموس أن مجموعة من الثموديين قد نزلت عند الساحل الشرقي لخليج العقبة ، وفي منطقة حسمي عامة ، برغم أن هذا الخليج سمي خلال حقبة لا تزيد عن ثلاثة قرون باسم خليج : لحيان . ويذكر موسل أن حرة العوارض وحرة الرحى كانتا في القرن الثاني الميلادي من منازل ثمود ( شمال الحجاز/ ص 92 ) وهذا أمر محتمل ، ولا يوجد ما ينفيه ، لأن الموقعين ينسجمان مع طبيعة ثمود في اختيار منازلها ، ولكن من المستبعد أن تكون الأرض المحيطة بواجهة مدينة الحجر من ممتلكاتها كما ذكر موسل نفسه ( شمال الحجاز/ ص 93 ) . فليس هناك ما يدل على أنهم كان لهم وجود هناك أصلاً .
ويبدو أن الثموديين ابتعدوا عن مناطق النزاع وعادوا إلى حياة الشتات مرة أخرى منذ القرون الأولى بعد الميلاد . فتوغل قسم منهم في بادية الشام وقصد أطراف سورية وفلسطين ، وربما سيناء ، ودخل بعضهم في خدمة الرومان ، واتجه قسم آخر إلى منطقة الجوف وأطراف صحراء النفوذ ، ويظهر أنهم جميعاً اندمجوا تدريجياً في الأقوام والقبائل الأخرى وغلبت عليهم أسماء أخرى غير اسم ثمود . فهم لم يكونوا مجتمعين في منطقة واحدة تجمعهم في كيان واحد قوي ومتضامن ، بل كانوا موزعين في جماعات صغيرة متناثرة في الجبال والحرار المعزولة . ويذكر جواد علي أن آخر ذكر لثمود جاء في نص يعود إلى القرن الخامس الميلادي ( المفصل / 1 / ص 326 ) . ويفيد هذا النص بأن بعض الثموديين كانوا فرساناً في جيش الروم . وذكر الدكتور مراد كامل أن إحدى كتائب هؤلاء الفرسان كانت في مصر ( مصدر سابق ) . ولعل هؤلاء قد اندمجوا بالمصريين ، وهكذا ذهبت ثمود ، كل ثمود ، مع الريح .

* شاعر وناقد عراقي تبوأ مناصب ثقافية رفيعة في بلاده

أخبار ذات صلة

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب